مقدمة
اندهشت كثيراً أمام
تلك الحملة شبه المنظمة التي تشن على الأدب في مجموعات القراءة وتتفه من قيمته
وتطالب القراء بقراءة الكتب بدلاً من الروايات بحجة أن الروايات لا قيمة لها. حالياً
ازددت اهتماماً بالموضوع بعد قراءة منشور لأحد الأعضاء يقسم القراء إلى مثقفين
وغير مثقفين حسب ما يقرؤونه، فالمثقفين من وجهة نظره هم من يقرؤون الكتب فقط وغير
المثقفين هم من يقرؤون الروايات! لذا قررت أن أخصص مقالاً عن هذا الاتجاه الفكري
الذي استفزني كثيراً. لتعلموا يا إخوتي أصحاب هذا الاتجاه الفكري أنكم واهمون لأن
الثقافة مفهوم واسع جداً ولا ينحصر في قراءة الكتب فقط وكنت قد كتبت مقالاً في
عصير الكتب بخصوص هذا الموضوع أردت به عرض مصادر الثقافة المختلفة على القراء.
يمكنك الوصول إلى المقال عبر هذا الرابط:
إذن لنعد لموضوع
المقال الحالي. لماذا يسفه البعض من قيمة الرواية ويروجون لفكرة أنها غير مفيدة
ولا تجعل قارئها مثقفاً. بالطبع أنا أعذرهم بسبب رداءة مستوى الرواية العربية
الحديثة وبخاصة المصرية التي وصلت إلى مستوى السوقية والكتابة بالعامية والانحدار
بثقافة القارئ. لكن هذا لا يعني أن التسفيه من القيمة المطلقة للروايات أمر صحيح. لذلك
أريد أن أسرد لكم تجربتي مع القراءة التي يزيد عمرها عن خمسة عشر عاماً. بدأت
القراءة في عمر المرحلة الإعدادية، بدأت بمجلات الأطفال والقصص وعندما وصلت
للمرحلة الثانوية قرأت كثيراً من سلاسل روايات الجيب ولكني مع استمتاعي بهذه الروايات
شعرت بحاجة لقراءة روايات أكثر نضجاً وذات فكر إنساني مثمر. بدأت في رحلة تجميع
روايات الأدب الإنجليزي الخاص بالقرن التاسع عشر، شغفت بهذه المرحلة شغفاً عظيماً
وتخيلت نفسي أعيش في نمط هذه الفترة وقرأت معظم روايات تشارلز ديكنز الذي أعده
أستاذي الذي فتح عيني على حب الأدب. إن الروايات التي قرأتها في تلك الفترة، مع كل
الفائدة الأدبية والتاريخية والفكرية التي تلقيتها منها، أوجدت لدي الدافعية وفتحت
شهيتي لقراءة الكتب والتعمق في هذه القراءة. لأنك حين تقرأ رواية تاريخية مثلاً،
ستبحث عن أحد كتب التاريخ للتأكد من المعلومات التي قرأـها والتعمق فيها. مع
الوقت، كنت في هذه الفترة قد تخرجت من الجامعة منذ بضعة سنوات، بدأت في تكوين
مكتبتي. حرصت منذ ذلك الوقت وإلى الآن أن تكون الكتب التي أقتنيها متنوعة وفي كل
المجالات العلمية إضافة إلى الأدب وبدأت في استكشاف الأدب من كل المناطق والفترات
المختلفة فاقتنيت الأدب الأوروبي والأمريكي واللاتيني والعربي والأسيوي. أصبحت
الروايات هي متعتي الخالصة بجانب الكثير من المعلومات والأفكار والخلفيات الثقافية
التي استقيتها منها. مؤخراً أصبحت لدي خبرة في الروايات وحرصت على قراءة كتب النقد
الأدبي ومن ثم كتابة الدراسات النقدية. وأقول لكم أن ما لم أتعلمه في نظام بلدي
التعليمي المزرى تعلمته من الأدب. كل أديب أحببته وقرأت مجموعة من رواياته علمني
شيئاً. بما قرأته وبتثقيف نفسي من مصادر مختلفة رسخت في ذهني القيم التي أحملها
وسأحملها حتى الممات، قيم الإسلام المعتدل العظيمة وقيم الإنسانية والضمير، الحرية
والعدل والمساواة والشفافية والصدق والشرف والعدالة الاجتماعية وقول الحق دون خوف،
وكراهية الفساد والاستبداد والقمع وترديد الأكاذيب وقتل النفس التي حرم الله إلا
بالحق. وهناك أمر آخر، أنا شخص عملي وجوهري جداً بسبب ما قرأت ولست أقيم وزناً
للمظاهر الزائفة أو الماديات. بدون قراءة الأدب لم أكن سأرتقي بفكري أو أنضج، يتوصل
كل منا لأفكاره وقيمه وفلسفته بطرقه الخاصة.
أعتذر للإطالة. إذن
أريد أن أصل إلى خلاصة لكل ما سبق، لقراءة الأدب فوائد عظيمة حقاً. بدءاً من الفوائد
اللغوية التي تشكل لديك حصيلة لغوية قوية، ويمكنك ذلك عن طريق البحث عن كل كلمة
جديدة ومعرفة معناها وتدوينها في مفكرة. وهناك فوائد وجدانية مثل التعاطف مع
المظلوم أو أياً من شخصيات الرواية، وأخيراً الفوائد الثقافية المتعددة للأدب في
مختلف مجالات المعرفة مثل التاريخ والسياسة وعلم النفس. وهذا ما سنناقشه في جزءٍ
تالِ.
تاريخ فن
الرواية:
بالرغم من وجود
الأشكال المبكرة من الرواية في عدد من الأمكنة، بما يشمل روما القديمة، واليابان
في القرن العاشر والحادي عشر، وإنجلترا في عصر الملكة إليزابيث الأولى، فإن
الرواية الأوروبية يقال إنها بدأت برواية دون كيشوت في عام 1605 للكاتب الإسباني
ميجيل دي سيرفانتس. مرت الرواية بعدة مراحل في بدايتها مثل النوفيلا وهي قصص قصيرة
والملاحم البطولية والقصص الساخرة. كتب معظم كتاب عصر الملكة إليزابيث الأولى
أعمال نثرية من الأدب القصصي مثل اليوفيو التعليمي: تشريح ويت لجون ليلي، وباندوستو لروبرت جرين، وروزاليند لتوماس
لودج، وأركاديا للسير فيليب سيدني. يمكن رؤية عنصر واقعي في أعمال مثل المسافر
التعيس لتوماس ناش وعن القراءة لدانيال ديفوه لتوماس ديلوني. في عام 1719 رواية
دانيال ديفوه المنشورة روبنسون كروزو اعتبرت "أول رواية إنجليزية
عبقرية". يجب أيضاً ذكر رواية رحلات جاليفر لجوناثان سويفت لأهميتها كعمل
قصصي.
اكتسبت الرواية
شكلها الحديث أثناء النصف الأول من القرن الثامن عشر. عبرت رواية باميلا مكافأة
الفضيلة أو لصامويل ريتشاردسون (1740) عن طريقة جديدة في تصوير المشاعر والدوافع
الإنسانية. بعد الموضوعات الأخلاقية لرواية باميلا، حظي إيلاريس وتشارلز جراندسن أيضاً
بالشعبية. كان هنري فيلدنج، وتوبياس سموليت، ولورانس ستيرن، إلخ روائيين آخرين
مشهورين في القرن الثامن عشر. فتحت رواية تريستام شاندي لستيرن، التي لم تحتوي على
حبكة، المجال أمام الرواية كتعبير مباشر عن نزوات، ودعابات وآراء الكاتب. إن
أوليفر جولدسميث روائي آخر في أواخر القرن العشرين، قام بطرح الآلام في رسم
الشخصيات.
واجهت التقنيات
قليلة الخبرة لكتابة الرواية في القرن الثامن عشر نوعاً من التنقيح أثناء القرن
التاسع عشر. أعاد الكتاب القوط مثل هوراس والبول، وويليام بيكفورد والسيدة رادكليف
الحب إلى الفروسية، والعصور الوسطى والمغامرة عن طريق رواياتهم. حجزت جين أوستين
مكاناً للمرأة في كتابة الرواية. ثم افتتح السير والتر سكوت الرواية التاريخية. مع
تشارلز ديكنز، الذي ولد في عام 1812، دخلت الرواية مرحلة جديدة في تاريخها. فقد
كان أول من طور حبكة أكثر تعقيداً. ملأت الدعابة والشفقة رواياته وهدفت لإعادة
تشكيل المجتمع. ثاكيري هو روائي آخر من هذا القرن قام بمحاولة كشف سوءات المجتمع
الغربي. جورج إليوت، وميريديث، وتشارلز كينجسلي، وويليام موريس هم الروائيين
الآخرين المهمين في هذا القرن.
صنعت الحرب
العالمية الأولى والثانية تغيرات في كل عصب في المجتمع بما يتضمن الأدب. يمكن رؤية
تأثيرها في الأدب القصصي أيضاً. أثناء القرن العشرين يمكننا رؤية عدة تغيرات
وأيضاً تغيرات ابتكارية في أسلوب ومحتوى الرواية. علاوة على ذلك، أصرت النظريات
النفسية لفرويد وجونج وكتابات أدباء ما بعد الحداثة على حرية التعبير عن كل
الخبرات والعلاقات الإنسانية. جوزيف كونراد، وهنري جيمس، وهـ ج. ويلز، ود. هـ.
لورانس إلخ، هم بعض الروائيين المهمين في القرن العشرين. الآن، كسرت الفكرة
التقليدية للرواية كقصة وفتح الطريق للمفاهيم الابتكارية، والتجريبية،
والسيكولوجية للحبكة، والشخصيات والسرد.
الحبكة،
والشخصيات، وبنية الرواية
الأدب القصصي هو
خصوصاً روايات تصف أحداثاً متخيلة. للروايات أنواع مختلفة من الحبكة وهي
التراجيديا، والكوميديا، والسخرية والرومانسية، وتكشف شخصياتها نفسها ونواياها في
الحوار الروائي إلى حد بعيد. تتصف الرواية بأنها المحاولة الأدبية لمنح تأثير
الواقعية، بواسطة تمثيل الشخصيات المركبة مع الدوافع المختلطة التي تعد متأصلة في
الطبقة الاجتماعية. إنها تؤدي في بنية اجتماعية متطورة جداً. إنها أيضاً تختلط
بشخصيات أخرى كثيرة. الرواية هي كالمسرحية ولكن مع حبكة وشخصيات. يجب أن يعتمد
الكاتب المسرحي على قدرته على جعلنا نرى ونسمع بأنفسنا، ولكن الروائي يستطيع وصف
ما لا يمكن عرضه أبداً على أي مسرح. إنه يستطيع أن يخبرنا ما يحدث، ويشرحه وأخيراً
يعطي ملاحظاته الخاصة عليه. لا يمكن لقصته أن تكون متناسقة في العرض، والأزمة وحل
العقدة. بعد ذلك وقبل الذروة، سيكرس الكتاب صفحاته لعرض الطريقة التي ظهرت بها
الأزمة. ليس للرواية إطار نظري صارم. إن الروائي تواق إلى تمثيل الحياة في كليتها
وربما يرجح إلحاحها الخلاق على شعوره بالوحدة الفنية والتوازن في الحكاية، والوصف،
والتصوير والحوار. لكن هذا قد لا يهم إذا كان المؤلف يستطيع إبقاء القارئ تحت
سيطرته بحبكته، وشخصياته وأسلوبه السردي حتى تنتهي القصة. إن شخصية المؤلف عنصر
مهم جداً. يجب أن تعرض كل رواية وجهة النظر وبعض المشاكل المحددة. إنها يجب أن
تكون مرآة تعكس نظرة المؤلف للعالم مع كل الأحداث، والشخصيات، والانفعالات
والدوافع. إنها يجب أن تكون موافقتنا أو رفضنا لوجهة النظر هذه عن الحياة وهذا هو
ما تقرر خيارنا في الأدب القصصي.
فوائد
قراءة الأدب
إن للأدب فوائد
جمة، وهذا يشمل أغلب المراحل العمرية للبشر، فلكل مرحلة عمرية صفاتها وقراءتها
واستفادتها الخاصة من الأدب. هناك الفوائد النفسية مثل تحقيق السلام النفسي
والتعاطف وأن تتعلم كيف تعبر العقبات الجديدة التي تظهر أمامك في الحياة. وهناك
الفوائد الاجتماعية أو المعنوية، فعندما تقرأ رواية ما ستجد نفسك بها، ستكتشف
شخصيتك الحقيقية من خلال تفاعلك مع شخصيات الرواية، وربما أيضاً ميولك واتجاهاتك.
قراءة الأدب يعلمك أيضاً التركيز، ويحسن الإبداع بداخلك. قد تفاجئ بشيء آخر غير ما
كنت تتصوره عن نفسك، فربما يتغير ما تحبه وما تكرهه من خلال حبكة وشخصيات الرواية.
للخوض في فوائد
قراءة الأدب القصصي وبخاصة الرواية من منظور علمي، بحثت وقرأت عدة دراسات علمية
تناولت قراءة الأدب. أول هذه الدراسات كانت أطروحة ماجستير بجامعة وسط ميزوري
تناولت فوائد قراءة الأدب لدى طلاب المدارس، وكانت النتائج كالتالي: ثبت أن قراءة
الأدب القصصي يساعد في تطور الاحتفاظ بالذاكرة، وحفظ المفردات، والتعاطف، ومعرفة
العالم. تظهر المعلومات المقدمة في مراجعة أدبيات البحث أهمية قراءة الأدب لكل من
التربويين والوالدين. كما أثبتت أن قراءة الأدب القصصي مهم للعملية التعليمية
بالنسبة للأفراد. إنها تساعدهم ليكونوا أكثر تعاطفاً وليفكروا في المشاكل قبل صنع
القرارات المتعجلة. بواسطة البحث في العوائق التي تقف في طريقهم للقراءة، يمكن أن
يبدأ الناس في تقليل أو حتى إزالة هذه العوائق التي تعوق قراءة الأدب القصصي.
يقترح هذا البحث أن يشجع التربويون والوالدين قراءة أكثر للأدب، والأدب النموذجي،
وتقديم مواد قراءة وأنشطة مثيرة للاهتمام وجذابة.
تناولت دراسة
أخرى عنوانها قراءة الروايات وقراءة الكتب غير الأدبية: علاقة تكافلية، أهمية
قراءة كل من الأدب والكتب وأثر وفائدة كل منهما لطلاب المدارس الإعدادية والثانوية.
تورد الدراسة أنهما عندما استخدما معاً، سمحت الروايات والكتب غير الأدبية للطلاب
بقراءة والانخراط في تحقيق موثوق به نحو الأنواع الأدبية، والموضوعات، والأفكار في
كلا النوعين من النصوص. كنتيجة، بدلاً من وضع هذه النصوص لتكون متنافسة في الفصل،
يجب أن يبحث المعلمين وأمناء المكتبات عن طرق لاستخدام هذه النصوص بطرق تكميلية،
بتسخير إمكاناتها التكافلية لتعزيز تعلم الطلاب. يقدم نظام الثنائيات والمجموعات
للطلاب طرق بديلة لرؤية واستيعاب المحتوى عندما يستكشفون وجهات نظر متعددة ويبنون
معرفتهم للمحتوى. ولكن ربما على نحو أكثر أهمية، فإنها تسمح للطلاب بالانخراط في
تحقيق موثوق به عندما يسهم الأدب والكتب غير الأدبية كلاهما معاً في فهم الطالب
بطرق ذات مغزى ودائمة.
تناولت عدة بحوث
أخرى قراءة الأدب القصصي وأثر ذلك على القدرة على التواصل والأداء بالدماغ. وكانت
النتائج كالتالي: اكتشف علماء الأعصاب أن قراءة رواية قد تحسن أداء وظائف الدماغ
على مستويات متنوعة. أجريت إحدى هذه الدراسات التي تناولت فوائد الدماغ من قراءة
الأدب القصصي في جامعة إيموري. وجد الباحثون أن انخراط المرء في قراءة رواية يعزز
القدرة على التواصل في الدماغ ويحسن أداء الدماغ. على نحو مشوق، ظهر أن قراءة
الأدب القصصي يعزز من قدرة القارئ على وضع نفسه في مكان شخص غيره وثني الخيال
بطريقة مماثلة لتخيل ذاكرة العضلة في الألعاب الرياضية. سجلت التغيرات التي سببتها
قراءة رواية في القشرة الصدغية اليسرى، وهي منطقة في الدماغ مرتبطة بقابلية التأثر
باللغة، جنباً إلى جنب مع المنطقة الحسية الحركية من الدماغ. ارتبطت الخلايا
العصبية لهذه المنطقة بخداع العقل إلى التفكير أنه يفعل شيئاً هو لا يفعله، وهي
ظاهرة معروفة بأنها المعرفة الموضوع على الأرض، أو المجسدة. أظهرت نتائج دراسة
أخرى أن التغيرات العصبية التي وجدت مرتبطة بأنظمة الإحساس الجسدي والحركة توحي
بأن قراءة رواية يمكن أن تنقلك نحو جسم البطل. القدرة على أن تضع نفسك مكان شخص
آخر تطور نظرية العقل.
خاتمة: بعد الاطلاع على نتائج هذه الدراسات والبحوث، أتمنى ممن
يسفهون من قيمة الروايات مراجعة أنفسهم. لاحظ أنني لا أقول هنا أني مع قراءة
الروايات فقط أو شيء من هذا القبيل. بل إنني أستفز جداً من الإقبال المبالغ فيه
على روايات الكتاب الجدد الذين أرى أن معظمهم لا يتمتع بموهبة أو بلغة قوية وأسلوب
مميز. ولكن الأدب عموماً هو فن عظيم وأن تستشف وجهات النظر والأفكار والقضايا والرؤى
وتستمتع باللغة والأسلوب وتكون حصيلة لغوية وتتداخل مع شخصيات الرواية لهي متعة
خالصة لا تنتهي. أتمنى من كل من قرأ هذا المقال أن يفهم حقاً معنى كلمة أدب ودور
وقيمة هذا الأدب في لغتنا وثقافتنا، وأن أغلب ما ينشر على الساحة هذه الأيام لا
يمكن أن نطلق عليه كلمة رواية أو أدب. أخيراً، أنصح من يسفه من قيمة الأدب يتوقف
عن ذلك ويبدأ في قراءته، وأنصح من يقرأ الرديء من الأدب أن يتركه وينصرف عنه إلى
الجيد. أعتقد أن الأوان لم يفت بعد لتصحيح مساراتنا في القراءة.
No comments:
Post a Comment