لماذا يتعامل بعض متلقيِ الأدب مع الفصحى على أنها أمر معقد يصعب فهمه واستيعاب مفرداته، ويتناسون كل هذا الجمال الذي تزخر وتنفرد به في آن. هناك جدل دائر وخلاف بين جمهور الرواية العربية الذي انقسم إلى فريقين، الأول يدعم الفصحى ويرى أن كتابة الأدب بالعامية ضعف من الكاتب وليس عيباً في الفصحى، والفريق الآخر يقبل بحماس على الأعمال الركيكة في اللغة أو المكتوبة بالعامية ولا يجد ما يعيب هذه الأعمال، ويشق عليه قراءة الأدب بالفصحى. تكمن الأزمة في أن هناك تطابقاً في الحالة المزرية من الضعف في اللغة العربية والثقافة والفكر بين بعض الأدباء وجزء من جمهور الأدب، وهذا لا يستقيم بأي حال من الأحوال، فعلى الأديب أن يرتقي بفكر وثقافة المتلقي لا أن ينحدر به، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه. المؤكد أن شاعر النيل حافظ إبراهيم حسم هذا الخلاف منذ القرن الماضي بهذا البيت البديع:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن ××× فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
يجب أن نطرح هذا السؤال على أنفسنا، جميعنا الكتاب منا والقراء، لماذا يلجأون إلى العامية والركاكة؟ هل لضعف في الفصحى وقصور في إيصالها المعنى أم لضعف في أدواتهم كأدباء؟ أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم في قوم كان مجال تفوقهم وزهوهم وتفاخرهم هو اللغة والبيان ونظم الشعر، فلما أنزل الله كتابه الحكيم كان معجزة البيان. كالعادة يستدرجنا البعض إلى إثبات البديهي وتأكيد المؤكد فوجب التذكير. الفصحى تنفرد عن غيرها في أن لكل معنى عدة مفردات ولكل جملة العديد من طرق الصياغة، هناك المفردات التي تستخدم في العربية القديمة، ومنها ما يليق مع العربية الحديثة، وهناك المبسط وأخيراً الركيك الضعيف. على الأديب إتقان مهارة إيصال المعاني من مفردات وتراكيب جمل وإيحاءات لفظية بما يتوافق مع روح النص الأدبي. تكون لغة الرواية عظيمة وممتعة عندما يجيد الكاتب تآلف الكلمة مع الكلمة وقوة الموسيقى بدون كلمات غير متآلفة قد تحدث نشازاً في أذن القارئ. في الأدب قد تشترك الأذن مع العين في المتعة والتذوق. يجب أن يبتعد الأسلوب عن الزخرفة اللفظية المبالغ فيها وألا تكون التشبيهات بعيدة عن جو النص. يجدر أن يكون جمال اللغة ورونق الأسلوب قيمة عظيمة في النص الأدبي بصرف النظر عن المستوى الفني.
هذا عن السرد أما الحوار فالأمر مختلف. قد يكون استخدام العامية في الحوار نقطة قوة وليس ضعفاً إن أتقن الكاتب استخدامها، إذ أن إيصال المعنى بالعامية أصعب منه بالفصحى، فمن أجل إيصال الأفكار والانطباعات والمشاعر على لسان الشخصيات ينبغي التحقق من أية عامية يجب استخدامها وإلى أي إقليم تنتمي الشخصية وأي عمل تمتهن ومن أي فئة اجتماعية تندرج. إذا استطاع الكاتب إتقان الحوار بالعامية فهذا أمر يضيف إلى ثقل وأهمية النص الأدبي وتعبيراً وافياً عن الشخصيات فيه، وعن المجتمع على نحو عام، نجيب محفوظ كمثال. إلا أن إساءة استغلال العامية وامتلاء الحوار بالبذاءة والسوقية والتفاهة في بعض النماذج يعد ابتذالاً وانحداراً بمستوى الأدب من الكاتب وانتقاصاً من قيمة العمل ككل.
إن ضعف اللغة وضحالة الفكر والثقافة نال من القراء مثلما نال من بعض كتاب الجيل الجديد، بل هو تأثر بالضعف والجهل والسطحية المنتشرة في المجتمع ككل. الأسوأ أن يفتقر هؤلاء الكتاب إلى المعرفة والدراسة والإجادة لمقومات الرواية من لغة وحبكة وشكل فني ومضمون فكري. أصبحت الأفكار التي تتناولها بعض الروايات سطحية وغير متنوعة وأصبح الذوق العام في انحدار ليس في الأدب وحده وإنما في عدة مجالات. نشأ فن الأدب في الأصل ليشيد فكراً يرتقي بالمجتمع ويشرع في تناول القضايا الأخلاقية والاجتماعية والسياسية التي تخص هذا المجتمع بالتساؤل وتوجيه أصابع الاتهام للأمثلة السيئة، فرادى أو جماعات، هذه رسالة الأدب فلكل عمل فني رسالة بجانب الترفيه. غير الأدب هناك الدين والفكر والفلسفة وعلم الاجتماع للارتقاء بالمجتمع وحل مشكلاته. يجب أن يبقى الأدب راقياً لينير الطريق إلى خير المجتمع ومعبراً بصدق عن القضايا والأفكار.
عذراً للإطالة والمباشرة في بعض المواضع من هذا المقال. ختاماً أقول لنهرب باللغة إلى الجمال والرصانة ولا نتركها تقبع في قاع حفرة الإهمال والتردي. أثق ثقة مطلقة بأن اللغة قوية ومتعافية وستمرق من هذا المأزق، كما مرقت في القرن الماضي عندما حاول المحتل إضعاف الفصحى واللجوء إلى العامية على المستويات الرسمية حتى تستبدل فيما بعد باللغة الأجنبية ووقف المخلصون من الكتاب والشعراء وعامة الشعب لهذا التيار بالمرصاد حتى عادت اللغة قوية جزلة. إنها لغة القرآن، لغتنا وهويتنا، ومن تذوب هويته يتحول إلى مسخ لا هو محافظ على هويته ولا هو قادر على الانتماء لهوية وثقافة أخرى. لا يجوز التفريط في لغة الضاد، لا على مستوى الحوار ولا على مستوى الأدب. سيكون من الرائع أن نرى الشباب يتطور وينمو إدراكه وينفض يده من هذه الأعمال الغثة، ويقرأ نصوص أدبية قوية بالفصحى. لا يجوز التجاوز عن رداءة كل عناصر الرواية من لغة وأسلوب وحبكة وشكل فني ومضمون، والتجاوز عن المنطق الذي يتنافى مع هذه الأعمال البائسة لمجرد أنها تحكي عن الحب أو الرعب أو لا تخلو من تشويق. لا يجوز، بل لا يليق باللغة العربية أن ننحدر بها إلى هذا المستوى من الضعف والبذاءة. حافظوا على نظافة لغتكم.
No comments:
Post a Comment